فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي رواية للبخاري في الرقاق: «يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق»، قال: ورواه أبو سعيد رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه، وللبخاري في الخصومات عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك، قال: من؟ قال: رجل من الأنصار، قال: ادعوه، قال: ضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف والذي اصطفى موسى على البشر قلت: أي خبيث على محمد، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض» وفي رواية في أحاديث الأنبياء: «فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى» وفي رواية في أحاديث الأنبياء: «فلا أدري أفاق قبلي أو حوسب بصعقة الطور» والله أعلم- هذا ما رأيته من ألفاظ الحديث في الكتب الستة، وأما معنى صعق فإنه صاح ومات فجأة أو غشي عليه، قال في القاموس: الصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب، وصعق كسمع صعقًا ويحرك وصعقة وتصعاقًا: غشي عليه.
والصعق محركة: شدة الصوت، وككتف: الشديد الصوت، وقال عبد الحق في الواعي: الأزهري: الصاعقة- يعني بالفتح- وأصعقتهم- إذا أصابتهم فصعقوا وصعقوا، ومنه حديث الحسن: ينتظر بالمصعوق ثلاثًا ما لم يخافوا عليه نتنًا- يعني الذي مات فجأة، قال: والصاعقة مصدر جاء على فاعلة، تقول: سمعت صاعقة الرعد وثاغية الشاء، وقوله: {وخر موسى صعقًا} [الأعراف: 143] أي مغشيًا عليه، دل على ذلك قوله سبحانه {فلما أفاق} إنما يقال: أفاق من العلة والغشية وبعث من الموت، قال: وجملة الصاعقة الصوت مع النار، وقال أبو عبد الله يعني القزاز: الصعق هو أن يسمع الإنسان صوت الهدة الشديدة فيصعق لذلك عقله، واشتقاق الصاعقة من هذا، سميت صاعقة لشدة صوتها وتقول: إنه لصعق، أي شديد الصوت، وكذا هو صعاق- انتهى.
فتحرر من هذا أن الصعق يطلق على الموت فجأة، وعلى الغشي كذلك، وأن الإفاقة لا تكون إلا عن غشي لا عن موت، فعلم أن الصعقة في هذه الآية إنما هي غشي لأن الثانية عنها إفاقة، وأيضًا فمن الأمر المحقق أنه لا يموت أحد من أهل البرزخ فكيف بالأنبياء عليهم السلام، فالصواب حمل الصعقة المذكورة في الحديث على الغشي أو ما يشبهه، ويؤيده التجويز لأن تكون صعقة الطور جزاء عنها، وعلى تقدير أن تكون غشيًا إن قلنا إنه يكون بنفخة الإماتة يلزم عليه أن لا يكون للغشي ولا لعدمه مدخل في الشك في أن موسى عليه السلام أفاق قبل أو لم يحصل له غشي أصلًا، لأن الذي يكون به بطشه بالعرش- وهو بروحه وجسه- إنما هو البعث من الموت لا الإفاقة من الغشي ولا عدم الغشي قبل البعث، فالذي يوضح الأمر ولا يدع فيه لبسًا أن يكون ذلك بعد البعث، وتكون حينئذ النفخات أربعًا: الأولى لإماتة الأحياء، الثانية لإحياء جميع الموتى، وهاتان هما المذكورتان في سورة يس، ولذلك لما ذكرهما صرح في أمرهما بما لا يحتمل غيره {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} الثالثة لابتدائهم بعد البعث بالهول الشديد، والحال يقتضيه لأن ذلك اليوم يوم الأهوال والارعاب والارهاب، وإظهار العظمة والجلال لتقطيع الأسباب، والذي يدل عليه في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في كثير من رواياته: «فإن الناس يصعقون يوم القيامة» فإن يوم القيامة اسم للوقت الذي أوله البعث وآخره تكامل دخول كل فريق إلى داره ومحل استقراره، وأما صعقة الموت فإنها في دار الدنيا وهي للإنامة لا للإقامة، ويضعف حمله على ما قبل البعث الروايات الصحيحة الجازمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، وما حكاه الكرماني من الإجماع على ذلك ولا فخر فيه إلا بحصول البعث لا بإظهار الجسد من غير بعث، فهذا الجزم ينافي ذلك الشك، فإذا كان المراد بما في الحديث الغشي كانت نفخة أخرى للإيقاظ منه، وهاتان المرادتان بما في هذه السورة كما في رواية السورة كما في رواية الترمذي وما في النمل، ولذلك عبر عنها بالفزع، ويؤيد ذلك التعبير في رواية البخاري في التفسير بالنفخة الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارًا، ولو أنهما نفختان فقط كان التعبير بالآخرة قاصرًا عما تفيده الثانية مع المساواة في عدة الحروف، وهو مما لا يظن ببليغ، فكيف بأبلغ الخلق المؤيد بروح القدس صلى الله عليه وسلم فكان العدول عن الثانية إلى الآخرة مفيدًا أنها أربع، ولعل ذلك معنى: {أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين} [غافر: 11] وسميت إماتة لشدة الغشي بها لعظم أمرها ومعنى زلزلة الساعة التي تسكر، ويؤيده التعبير عن القيام منها بالإفاقة لا بالبعث، ولا يعكر على هذا شيء إلا رواية البخاري في الخصومات: «فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى» إلى آخره، فالظاهر أن راويها وهم، أو روي بالمعنى فما وفى بالغرض، والراجح روايات من قالوا: «فأكون أول من يفيق» بالكثرة وبزوال الإشكال، هذا ما كان ظهر لي في النظر في المعنى وتطبيق الآيات والأحاديث عليه، ثم رأيت شيخنا حافظ عصره أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني المصري رحمه الله نقل ما جمعت به بين الروايات في كتاب الأنبياء من شرحه للبخاري عن القاضي عياض فقال: وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض.
وأقره على ذلك ثم نقل عن ابن حزم عين ما قلته في النفخات فقال ما نصه: تكميل: زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع: الأولى نفخة إماتة يموت فيها من بقي في الأرض، حيًا، ثانيها نفخة إحياء فيقوم كل ميت، والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليهم، لا يموت منها أحد، والرابعة إفاقة من ذلك الغشي، ثم رده شيخنا بأن الصعقات أربع، ولا يستلزم كون النفخات أكثر من اثنتين، وذلك أنه ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حيًا ويغشى على من كان ميتًا، فهاتان صعقتان في النفخة الأولى، وينفخ النفخة الثانية فيفيق من كان مغشيًا عليه ويحيى من كان ميتًا، فهاتان اثنتان في النفخة الثانية، وهذا الرد مردود لمن حقق ما قلته بأدنى تأمل، ويلزم عليه أن يكون أصفياء الله أشد حالًا وفزعًا ممن تقوم عليهم الساعة وهم شر عباد الله، والعجب أن الذي رده على ابن حزم سلّمه لعياض- والله الموفق.
ولما ذكر إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن، أتبعه إقامتهم بنور جميع الكون ظاهرًا بالضياء الحسي، وباطنًا بالحكم على طريق العدل الذي هو نور الوجود الظاهري والباطني على الحقيقة كما أن ظلم ظلامة كذلك فقال: {وأشرقت} أي أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة {الأرض} أي التي أوجدت لحشرهم، وعدل الكلام عن الاسم الأعظم إلى صفة الإحسان لغلبة الرحمة لاسيما في ذلك اليوم فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بها فقال: {بنور ربها} أي الذي رباها بالإحسان إليها بجعلها محلًا للعدل والفضل، لا يكون فيها شيء غير ذلك أصلًا، وذلك النور الذي هو شيء واحد يبصر به قوم دون آخرين كما كانت النفخة تارة للهلاك وتارة للحياة.
ولما كان العلم هو النور في الحقيقة، وكان الكتاب أساس العلم وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف ولذلك كذب به الكفار أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين إشارة إلى هوانه وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك وكذا ما بعده من الأفعال زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال: {ووضع الكتاب} أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به.
ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف، وقد يتبعه من أراد الله به الخير، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا، وهي قليلة جدًّا بالنسبة إلى جميع الناس، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال: {وجاء بالنبيين} للشهادة على أممهم بالبلاغ.
ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين، عبر بجمع الكثرة فقال: {والشهداء} أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من طاعة أو معصية، ووقع الجزاء على حسب ذلك، فظهر العدل رحمة للكفار، وبان الفضل رحمة للمسلمين {وقضى بينهم} أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم، ولما كان السياق ظاهرًا في عموم الفضل عدلًا وفضلًا كما يأتي التنبيه عليه قال: {بالحق} بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل.
ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما، أزال ذلك بقوله: {وهم} أي باطنًا وظاهرًا {لا يظلمون} أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلًا، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئًا ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئًا.
ولما كان ذلك ربما كان بالنسبة إلى ما وقع فيه الحكم، وليس نصًا في شمول الحكم لكل عمل، نص عليه بقوله، ذاكرًا الوفاء والعمل لاقتضاء السياق ذلك بذكر الكتاب وما في حيزه من النبيين والشهداء والقضاء الحق، وذلك كله أليق بذكر العمل المؤسس على العلم، والوفاء الذي هو الركن الأعظم في الحق ومساق العلم، والعلم والوفاء أوفق لجعل العمل نفسه هو الجزاء بأن يصور بما يستحقه من الصور المليحة إن كان ثوابًا والقبيحة إن كان عقابًا، والفرق بينه وبين العقل المؤسس على الشهوة وقوة الداعية: {ووفيت كل نفس} ولما كانت التوفية في الجزاء على غاية التحرير والمبالغة في الوفاء والمشاكلة في الصورة والمعنى، جعل الموفي نفس العمل فقال: {ما عملت} أي من الحسنات، لذلك عبر بالعمل الذي لا يكون إلا مع العلم وأفهم الختام تقدير والله أعلم بما يعملون.
ولما كان المراد بالشهداء إقامة الحقوق على ما يتعارفه العباد وكان ذلك ربما أوهم نقصًا في العلم قال: {وهو أعلم} أي من العاملين والشهداء عليهم {بما يفعلون} أي مما عمل به بداعية من النفس سواء كان مع مراعاة العلم أو لا.
فالآية من الاحتباك: ذكر ما عملت أولًا يدل على ما فعلت ثانيًا، وذكر ما يفعلون ثانيًا يدل عليه ما يفعلون أولًا، وسره أن ما ذكر أوفق للمراد من نفي الظلم على حكم الوعد بالعدل والفضل لأن فيه الجزاء على كل ما بني على علم، وأما المشتهي فما ذكر أنه يجازى عليه بل الله يعلمه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما قدر كمال عظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريقة أخرى تدل أيضًا على كمال قدرته وعظمته، وذلك شرح مقدمات يوم القيامة لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم، فقال: {وَنُفِخَ في الصور فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} واختلفوا في الصعقة، منهم من قال إنها غير الموت بدليل قوله تعالى في موسى عليه السلام: {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} [الأعراف: 143] مع أنه لم يمت، فهذا هو النفخ الذي يورث الفزع الشديد، وعلى هذا التقدير فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد، وهو المذكور في سورة النمل في قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ في الصور فَفَزِعَ مَن في السموات وَمَن في الأرض} [النمل: 87] وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين.
والقول الثاني: أن الصعقة عبارة عن الموت والقائلون بهذا القول قالوا إنهم يموتون من الفزع وشدة الصوت، وعلى هذا التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها: نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النمل والثانية: نفخة الصعق والثالثة: نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة.
وأما قوله: {إِلاَّ مَن شَاء الله} ففيه وجوه الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: عند نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يميت الله ميكائيل وإسرافيل ويبقي جبريل وملك الموت ثم يميت جبريل.
والقول الثاني: أنهم هم الشهداء لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش».
القول الثالث: قال جابر هذا المستثنى هو موسى عليه السلام لأنه صعق مرة فلا يصعق ثانيًا.
القول الرابع: أنهم الحور العين وسكان العرش والكرسي.
والقول الخامس: قال قتادة الله أعلم بأنهم من هم، وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وفيه أبحاث:
الأول: لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى، لأن لفظ {ثُمَّ} يفيد التراخي، قال الحسن رحمه الله القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن بينهما أربعين» ولا أدري أربعون يومًا أو شهرًا أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة.
الثاني: قوله: {أخرى} تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى، وإنما حسن الحذف لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة.
الثالث: قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله: {فَإِذَا هُم} تدل على التعقيب.
الرابع: قوله: {يُنظَرُونَ} وفيه وجهان الأول: ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم والثاني: ينظرون ماذا يفعل بهم، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والخمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم.
ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد عليها الآن بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] وبدليل قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} [الحاقة: 14] بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة.
المسألة الثانية:
قالت المجسمة: إن الله تعالى نور محض، فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله، وأكدوا هذا بقوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35].
واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه الأول: أنا بينا في تفسير قوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نورًا بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة، وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور هاهنا على العدل، فنحتاج هاهنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى، ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور هاهنا ليس إلا هذا المعنى، أما بيان الاستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون أظلمت البلاد بجورك، وقال صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» وأما بيان أن المراد من النور هاهنا العدل فقط أنه قال: {وَجِىء بالنبيين والشهداء} ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل، وأيضًا قال في آخر الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم والوجه الثاني: في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى، ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى، لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب، فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور الله، كقوله: بيت الله، وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول، لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى المجاز.
والوجه الثالث: أنه قد قال فلان رب هذه الأرض ورب هذه الدار ورب هذه الجارية، ولا يبعد أن يكون رب هذه الأرض ملكًا من الملوك، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع كونه نورًا.
المسألة الثالثة:
أنه تعالى ذكر في هذه الآية من أحوال ذلك اليوم أشياء: أولها: قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} وقد سبق الكلام فيه وثانيها: قوله: {وَوُضِعَ الكتاب} وفي المراد بالكتاب وجوه الأول: أنه اللوح المحفوظ الذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت قيام القيامة الثاني: المراد كتب الأعمال كما قال تعالى في سورة سبحان: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] وقال أيضًا في آية أخرى {مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وثالثها: قوله: {وَجِىء بالنبيين} والمراد أن يكونوا شهداء على الناس، قال تعالى: {فكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيدًا} [النساء: 41] وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] ورابعها: قوله: {والشهداء} والمراد ما قاله في {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143] أو أراد بالشهداء المؤمنين، وقال مقاتل: يعني الحفظة، ويدل عليه قوله تعالى: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] وقيل أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل الله، ولما بين الله تعالى أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات، بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل أحد حقه، وعبّر تعالى عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها: قوله تعالى: {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق} وثانيها: قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وثالثها: قوله: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي وفيت كل نفس جزاء ما عملت، ورابعها: قوله: {وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} يعني أنه تعالى إذا لم يكن عالمًا بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي بالحق لأجل عدم العلم، أما إذا كان عالمًا بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ في ذلك الحكم، فثبت أنه تعالى عبّر عن هذا المقصود بهذه العبارات المختلفة، والمقصود المبالغة في تقرير أن كل مكلف فإنه يصل إلى حقه. اهـ.